كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيدًا؛ وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالًا؛ ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال: «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك».
فهذه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنتين بالثلثين. فدل هذا على أن البنتين فأكثر لهما الثلثان في هذه الحالة.
وهناك أصل آخر لهذه القسمة؛ وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك}.. كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى قياسًا على الأختين. وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة.
وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين- عند وجودهما- في الحالات المختلفة. مع وجود الذرية ومع عدم وجودها: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة فلأمه السدس}..
والأبوان لهما في الإرث أحوال:
الحال الأول: أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف وللأبوين لكل واحد منهما السدس وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب. أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس.
والحال الثاني: ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة وينفرد الأبوان بالميراث. فيفرض للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين. فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف أو الزوجة الربع وأخذت الأم الثلث (إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم.
والحال الثالث: هو اجتماع الأبوين مع الإخوة- سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم- فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر؛ ولكنهم- مع هذا- يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. فيفرض لها معهم السدس فقط. ويأخذ الأب ما تبقى من التركة. إن لم يكن هناك زوج أو زوجة. أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث فيفرض لها الثلث معه كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة.
ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}..
قال ابن كثير في التفسير: أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية.. وتقديم الدين مفهوم واضح. لأنه يتعلق بحق الآخرين. فلابد من استيفائه من مال المورث الذي استدان ما دام قد ترك مالًا توفية بحق الدائن وتبرئة لذمة المدين.
وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين؛ كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير ومن الثقة في المعاملة ومن الطمأنينة في جو الجماعة فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته حتى بعد وفاته:
عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله. أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم. إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر». ثم قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه. «فقال: نعم. إلا الدين. فإن جبريل أخبرني بذلك». أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي.
وعن أبي قتادة كذلك: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ليصلي عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا على صاحبكم فإن عليه دينًا» فقلت: هو عليَّ يا رسول الله. قال: «بالوفاء؟» قلت: بالوفاء. فصلى عليه.
وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها. وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضًا. وقد يكون المحجوبون معوزين؛ أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة؛ وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت. ولا وصية لوارث. ولا وصية في غير الثلث. وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية.
وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد: {آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا. فريضة من الله. إن الله كان عليمًا حكيمًا}..
واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض. فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر. وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء. وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ولما يفرضه الله؛ بإشعارها أن العلم كله لله؛ وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعًا ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا}..
واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية. فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة. إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة: {فريضة من الله}..
فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء. والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال. والله هو الذي يفرض وهو الذي يقسم وهو الذي يشرع.
وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ولا أن يحكموا هواهم كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم!
{إن الله كان عليمًا حكيمًا}..
وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب. تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس- مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره- فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة. فالله يحكم لأنه عليم- وهم لا يعلمون- والله يفرض لأنه حكيم- وهم يتبعون الهوى.
وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث لرد الأمر إلى محوره الأصيل. محوره الاعتقادي. الذي يحدد معنى الدين فهو الاحتكام إلى الله. وتلقي الفرائض منه. والرضى بحكمه: {فريضة من الله. إن الله كان عليمًا حكيمًا}..
ثم يمضي يبين بقية الفرائض: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين. ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين}..
والنصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد- ذكرًا أو أنثى- فأما إذا كان لها ولد- ذكرًا أو أنثى واحدًا أو أكثر- فللزوج ربع التركة. وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها. وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع.. وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية. كما سبق.
والزوجة ترث ربع تركة الزوج- إن مات عنها بلا ولد- فإن كان له ولد- ذكرًا أو أنثى. واحدًا أو متعددًا. منها أو من غيرها. وكذلك أبناء ابن الصلب- فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن.. والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة..
والزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة كلهن شريكات في الربع أو الثمن.
والحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار}..
والمقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه- لا من أصوله ولا من فروعه- عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع. وقد سئل أبو بكر- رضي الله عنه- عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي. فإن يكن صوابًا فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
فلما ولي عمر قال: إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. (رواه ابن جرير وغيره عن الشعبي)..
قال ابن كثير في التفسير: وهكذا قال علي وابن مسعود. وصح عن غير واحد عن ابن عباس وزيد ابن ثابت. وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم. وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف. بل جميعهم. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد.
{وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}..
وله أخ أو أخت- أي من الأم- فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكرًا أم أنثى. فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم. إذ أنهم يرثون بالفرض- السدس لكل من الذكر أو الأنثى- لا بالتعصيب وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}..
مهما بلغ عددهم ونوعهم، والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي. وإن كان هناك قول بأنهم- حينئذ- يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: {فلكل واحد منهما السدس}..
والإخوة لأم يخالفون- من ثم- بقية الورثة من وجوه:
أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء.
والثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة. فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن.
والثالث: أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم.
{من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار}..
تحذيرًا من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة. لتقام على العدل والمصلحة. مع تقديم الدين على الوصية. وتقديمهما معًا على الورثة كما أسلفنا..
ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية- كما جاء في الآية الأولى-: {وصية من الله. والله عليم حليم}..
وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض {وصية من الله} صادرة منه؛ ومردها إليه. لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى. صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع. وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد.
توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة. قاعدة التلقي من الله وحده وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين.
وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيبًا نهائيًا على تلك الوصايا والفرائض. حيث يسميها الله بالحدود: {تلك حدود الله. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين}..